قصر عابدين، أشهر القصور المصرية وشهد الكثير من الأحداث منذ العهد الملكي وحتى نشأة القاهرة الحديثة.
يعد قصر عابدين تحفة تاريخية نادرة بالشكل الذي حوله إلى متحف يعكس الفخامة التي شيد بها القصر والأحداث الهامة التي شهدها منذ العصر الملكي وحتى قيام ثورة يوليو 1952. ويحرص الكثير من المهتمين بالمتاحف على زيارته حيث يعد من أهم وأشهر القصور التي شيدت خلال حكم أسرة محمد علي باشا لمصر حيث كان مقراً للحكم من العام 1872 حتى العام 1952.
وشهد القصر أحداثاً لها دوراً كبيراً في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، كما أنه يعد البداية الأولى لظهور القاهرة الحديثة ففي نفس الوقت الذي كان يجرى فيه بناء القصر أمر الخديوي إسماعيل بتخطيط القاهرة على النمط الأوروبي من ميادين فسيحة وشوارع واسعة وقصور ومباني وجسور على النيل وحدائق غنية بالأشجار وأنواع النخيل والنباتات النادرة.
وكان الخديوي إسماعيل قد أمر ببناء قصر عابدين فور توليه الحكم في مصر العام 1863، ويرجع اسم القصر إلى عابدين بك أحد القادة العسكريين في عهد محمد علي باشا وكان يمتلك قصراً صغيراً في مكان القصر الحالي فاشتراه إسماعيل من أرملته وهدمه وضم إليه أراضي واسعة ثم شرع في تشييد هذا القصر.
وصف القصر
يحتوى القصر على قاعات وصالونات تتميز بلون جدرانها فالصالون الأبيض والأحمر والأخضر تستخدم في استقبال الوفود الرسمية أثناء زيارتها لمصر، إضافة إلى مكتبة القصر التي تحوى نحو مايقرب من 55 ألف كتاب. كما يحتوى القصر على مسرح يضم مئات الكراسي المذهبة وفيه أماكن معزولة بالستائر خاصة بالسيدات ويستخدم الآن في عرض العروض المسرحية الخاصة للزوار والضيوف.
ويوجد بداخل القصر العديد من الأجنحة مثل الجناح البلجيكي الذي صمم لإقامة ضيوف مصر المهمين، وسمي كذلك لأن ملك بلجيكا هو أول من أقام فيه، ويضم هذا الجناح سريراً يعتبر من التحف النادرة نظراً لما يحتويه من الزخارف والرسومات اليدوية.
ويضم القصر متحفا في غاية من الثراء التاريخي حيث كان أبناء وأحفاد الخديوي إسماعيل الذين حكموا مصر من بعده مولعين بوضع لمساتهم على القصر وعمل الإضافات التي تناسب ميول وعصر كل منهم، وقد تم ترميمه ترميماً معمارياً وفنياً شاملاً، وقد شملت هذه الأعمال تطوير وتحديث متحف الأسلحة بإعادة تنسيقه وعرض محتوياته بأحدث أساليب العرض مع إضافة قاعة إلى المتحف خصصت لعرض الأسلحة المختلفة التي تلقاها رؤساء مصر من الجهات الوطنية المختلفة.
أما المتحف الثاني بالقصر فهو مخصص لمقتنيات أسرة محمد علي باشا من أدوات وأواني من الفضة والكريستال والبلور الملون وغيرها من التحف النادرة. وقد ربط مجمع للمتاحف المتنوعة بخط زيارة واحد يمر من خلاله الزائر بحدائق القصر.
جولة داخل القصر:
وتبدأ الجولة بالوصول إلى شارع باب باريس حيث مدخل زوار القصر والمتاحف، في الجهة اليمنى مبنى صغير ومرأب للسيارات حيث يمكنك حجز تذاكر الدخول وتذكرة خاصة للتصوير بكاميرا بسعر زهيد.
قبل أن تخطو عبر بوابة «باب باريس»، توقف قليلا لتتأمل روعة ودقة تصميم البوابة الخشبية العملاقة بنقوشها وزخارفها البديعة، وهي التي أمر الخديوي إسماعيل بتصنيعها خصيصا في مدينة باريس الفرنسية لاستقبال الإمبراطورة أوجيني خلال زيارتها لمصر بمناسبة افتتاح قناة السويس.
وبعد البوابة الرئيسية ستجد نفسك أمام بهو تتوسطه نافورة تحفها تماثيل لملوك مصر من أبناء محمد علي باشا. وهنا سوف تلتقي بأحد المرشدين الذي سيأخذك في جولة مجانية ممتعة تتعرف فيها على كل قطعة من مقتنيات المتحف. وسوف يكشف لك المرشد بأن فكرة متاحف القصر قديمة وأول من بدأها كان الملك فؤاد الأول الذي حرص على تخصيص عدد من قاعات قصر عابدين لتكون متاحف تتضمن مقتنيات الأسرة من أسلحة وذخائر وأوسمة ونياشين ووثائق، يتباهى بها أمام ملوك العالم حينما يزورون قصره المنيف. وورث الملك فاروق الأول ولع والده بالتحف وأضاف للمتاحف الكثير من المقتنيات الخاصة به التي جمعها من مزادات أوروبا والتي يعود معظمها إلى القرن الثامن عشر.
تتضمن متاحف قصر عابدين: متحف النياشين والأوسمة، ومتحف الأسلحة، ومتحف الفضيات، ومتحف السلام ومتحف الوثائق التاريخية.
في أول جولتك سوف تجد عدداً من البزات العسكرية التي تعود للعصور الوسطى، والتي كانت تصنع للفرسان من الحديد الصلب ويصل وزنها لنحو 50 كيلوغراما، ومقسمة لتغطي أجزاء الجسم من الرأس وحتى القدم، ثم مجموعة من البدل العسكرية تعود لعصر المماليك وهي مصنوعة من حلقات حديدية متداخلة تسمى «الزرد»، كما توجد بزة حربية لمحارب من عصر الشاه الإيراني عباس الصفوي، تعود للقرن الخامس عشر.
وتتراص دواليب العرض المتحفي في تناغم حيث تجد دواليب لعرض الخناجر بأشكال متنوعة تستعرض تاريخ تطور صناعتها وتنوعها ما بين الشرق والغرب. ثم دواليب لعرض الأسلحة النارية بأنواعها والتي يعود بعضها للقرن السابع عشر. والمبهر حقا الأسلحة المخادعة التي كان يقتنيها الملك فاروق، ومنها أقلام وقداحات وعصا خشبية تطلق الرصاص في حال تعرض الملك لغدر مفاجئ. كما يضم مجموعة من الخناجر العربية المهداة من الملوك العرب، وأبرزها الخنجر الذي أهداه الملك عبد العزيز آل سعود للملك فاروق وهو مصنوع من الذهب الخالص ومطعم بفصوص من الألماس.
فضلا عن الخنجر الشخصي لثعلب الصحراء روميل عليه عبارة باللغة الألمانية «كلنا من أجل ألمانيا». والسلاح الشخصي لموسوليني، والذي اقتناه الملك فاروق من مزاد بإيطاليا.
ومن المعروضات المبهرة حقا في متحف الأسلحة (سيف العدل والتتويج) وهو الذي توج به قيصر روسيا الأول، ولا يوجد مثيل له حتى في روسيا وقد حصل عليه الملك فاروق عام 1948 من أحد المزادات في أوروبا بمبلغ 11 ألف جنيه إسترليني. السيف صنع في ألمانيا في القرن السابع عشر من الفضة الخالصة ومطلي بالذهب ومطعم بالأحجار الكريمة والعقيق والياقوت والزمرد. وهناك سيف مميز من الذهب ومطعم بالألماس، أهداه ملك إنجلترا جورج الثالث، كهدية زفاف الملك فاروق على الملكة فريدة. وسيف آخر من أمير الكويت عبد الله السالم الصباح كهدية زفاف الملك فاروق الثاني من الملكة ناريمان عام 1951. وأيضا يوجد السلاح الشخصي للملكة فريدة، وهو عبارة عن مسدس صغير مصنوع من الفضة ومقبضه من الصدف صنع خصيصا لها في بلجيكا.
الشعور بالانبهار والدهشة سوف يلازمك في كل فاترينة عرض، سواء لروعة المقتنيات أو لغرابتها. في جزء آخر ستجد مقتنيات مكتب الملك فاروق ومنها ساعة مكتب سويسرية الصنع، علب السجائر الخشبية أو الملونة بلوحات فرنسية بألوان رائعة، تيجان فرعونية مطعمة بالياقوت والفيروز وكؤوس ذهبية. وفي ركن آخر فاترينة عرض للآلات الموسيقية للفرقة الملكية تتوسطها النوتة الموسيقية للنشيد الوطني المصري.
ويمكن أن تأخذ جولتك في متحف النياشين والأوسمة أكثر من 30 دقيقة بعد أن تتفحص تاريخها ودلالاتها. يتكون المتحف من قسمين الأول منها يحتوي على مقتنيات أسرة محمد علي باشا من تحف متنوعة ونادرة كقلادة الملك فؤاد وقلادة الشريف حسين بن علي. أما القسم الآخر فيضم مجموعة رائعة من الأوسمة والنياشين والميداليات. خلف هذا القسم توجد أغرب المقتنيات وهي خزانة المجوهرات السحرية المدججة بالطلقات النارية، والتي اشتراها الملك فاروق من مزاد في فرنسا وتعود للقرن السابع عشر. وبمجرد أن يحاول أي شخص غير الملك فتح الخزانة التي لها كود سري لفتحها، تشهر الفوهات النارية الأربعة الأشبه بمدافع صغيرة في وجه السارق وتصيبه بالرصاص.
والأمر اللافت أن كل ركن وكل حائط من حوائط القصر تزينه لوحات فنية ممهورة بتوقيع فنانين فرنسيين، سواء لمشاهد حربية أو للأزياء العسكرية المصرية عبر العصور، ما يجعل الجولة بين أروقة المتاحف غنية وشيقة. وأيضا مجموعة صور فوتوغرافية للأسرة المالكة وصورة الزفاف الملكي للملك فاروق.
وتحوي متاحف عابدين أيضا متحفا خاصا بالفضيات يتضمن أدوات وأواني من الفضة والكريستال والبلور الملون والصيني حيث توجد قطع وأدوات مائدة صنعت خصيصا للأسرة المالكة في فرنسا وبلجيكا والنمسا وإنجلترا، خلال عهود حكمها المختلفة. ومن أبرزها إثارة للإبهار أطباق الفاكهة الضخمة والتي تزن أكثر من مائة كيلوغرام من الفضة والتي يشارك في حملها عدد من الخدم، وكذلك أواني الحساء الضخمة التي كانت تقدم في الحفلات الملكية. ومن أروع المجموعات التي يعرضها هذا المتحف تحف (الجالييه) من الزجاج الملون عليها مناظر طبيعية منفذة بالأسلوب البارز وأغلبها لأشجار ونخيل وجبال وأنهار وأفرع نباتية وأزهار بألوان رائعة تحاكي الطبيعة الفرنسية صنعها الفنان الفرنسي إميل جالييه.
تتضمن الجولة بقصر عابدين زيارة لمتحف الوثائق التاريخية والذي افتتح في عام 2004 وهو يحتوي على مجموعة من الوثائق النادرة من الفرمانات والوثائق التي تحكي تطور أحداث مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال فترة الحكم الملكي. وهو يعتبر كنزا للباحثين والدارسين المتخصصين في تلك الحقبة الزمنية.
ومسك الختام في جولتك بقصر عابدين الجلوس بقاعة عرض سينمائي على الطراز الملكي، تحيط بك التحف الملكية الذهبية من كل جانب، مقاعدها وثيرة وضخمة. هنا سوف تشاهد عرضا لفيلم تسجيلي يأخذك في رحلة بين أروقة القصر وأجنحته الملكية وحجراته المختلفة .
أما إذا أردت أن تحتسي القهوة أو قدحا من الشاي في حديقة قصر عابدين كما كان يفعل أفراد الأسرة المالكة من الملوك والأمراء والأميرات وأصدقائهم من ملوك العالم، فذلك أصبح متاحا بعد افتتاح مقهى للمشروبات الباردة والساخنة وهناك مقاعد وطاولات خشبية تطل على حديقة القصر، وتعلوها الحديقة الملكية الشتوية المغطاة، حيث كانت الأميرات يجلسن فيها لاحتساء الشاي ولقاء صديقاتهن. بعد أن تعيش في تلك الأجواء الملكية يمكنك أن تتوقف عند منفذ لبيع الهدايا التذكارية واقتناء ما تشاء من صور تذكارية لغرف القصر وأفراد الأسرة المالكة وميداليات تحمل صورهم، وأظرف عليها شعار الملكية المصرية وصورة قصر عابدين، وفي طريق خروجك من القصر يمكنك التجول والتقاط الصور في حديقة القصر التي يعود عمر نباتاتها إلى أكثر من 150 عاما وتضم مجموعة من أندر النباتات وكشك ملكي للموسيقى، وتم تخطيطها على غرار حدائق قصر فرساي الفرنسي الشهير. صحيح أن جولتك ستكون قد انتهت لكن الانبهار والشغف بزيارة القصر مرة أخرى لن يخفت، بل إن الشوق لزيارته مرة أخرى سوف يتأجج؛ لأن زيارة واحدة لقصر عابدين لا تكفي.