قامته الممتدة، وحجمه الضخم، تسيَّد المكان، منحته قوته الهائلة حقَّ الوجود، ومَنَع مظهره المهيب هجوم الأعداء. لسنواتٍ ظلَّ سيدَ الأرض؛ فقبل ظهور الإنسان بملايين الأعوام كان هو المتحكم فى كل البقاع.. ساد ثم باد.
الزمان: قبل نحو 100 مليون عام من الآن، كانت المنطقة المعروفة باسم الصحراء الغربية إحدى أكثر المناطق وافرة الخضرة حول العالم، فى ذلك العصر، المعروف جيولوجياً باسم «العصر الطباشيرى»، انتشرت المستنقعات المكونة من المياه العذبة فى طول صحراء مصر وعرضها، كانت الأشجار وارفة الخضرة، لتَهِبَ الحياة لمجموعات واسعة من الكائنات الحية من ضمنها الديناصورات.
إبَّان ذلك الوقت كانت الديناصورات ترعى فى الوديان التى تتخلل المستنقعات، منها العاشب الذى يتغذَّى على النباتات، ومنها آكل اللحوم الذى يفترس الكائنات، امتد وجوده لنحو 165 مليون عام، ثم انقرض إلى غير رجعة بسبب ظروف مجهولة، وظل حلم الكشف عن سبب الانقراض مسيطراً على خيال العلماء. ولتحقيق معادلة الوصول للحقيقة يكشف لنا العلماء بين ليلة وأخرى عن هياكل الديناصورات فى محاولة لدراسة ظروف معيشتها، وبالتالى استنتاج لغز انقراضها.
والآن، تمكَّن فريق مصرى - أمريكى مشترك من وضع قطعة جديدة فى أُحْجِية الكشف عن سِرِّ الانقراض الكبير الذى أصاب الديناصورات فى نهاية العصر الطباشيرى قبل نحو 65 مليون سنة، بعد أن استطاعوا الكشف عن ديناصور جديد، أطلقوا عليه «منصوراصورس» تيمناً بالجامعة التى ينتمى إليها الباحث الرئيس: جامعة المنصورة.
وبحسب دراسة نُشرت أمس (الاثنين) فى مجلة نيتشر العلمية ذائعة الصيت، التى تُعدُّ واحدة من أهم المجلات العلمية على مستوى العالم، تمكَّن الفريق من الكشف عن نوع جديد تماماً من الديناصورات فى نصر علمى فريد سيضيف الكثير إلى سجل مصر الأحفورى.
حين يتعلق الأمر بالسنوات الأخيرة من حياة الديناصورات فإن القارة الأفريقية تُعدُّ صفحة فارغة؛ فالحفريات التى عُثِرَ عليها فى أفريقيا تنتمى للفترة الزمنية بين 90 و100 مليون سنة فقط، وهى حفريات قليلة العدد، وتبعد عن زمن الانقراض بفترة كبيرة تتجاوز 25 مليون سنة، وهذا يعنى أن مسار تطور الديناصورات فى أفريقيا ظلَّ إلى حد كبير لغزاً. ولكن الآن، سيساعد اكتشاف الفريق البحثى - من جامعة المنصورة، بالتعاون مع جامعة أوهايو ومؤسسة ليكى للعلوم والجمعية الوطنية الجغرافية والمؤسسة الأمريكية للعلوم - للديناصور الجديد الآن على سَدِّ ثغرة من الثغرات ما قد يُسْهِم فى حل أُحْجِية اندثار الديناصورات.
عُثِرَ على الديناصور الجديد فى الواحات الداخلة أثناء رحلة استكشافية قام بها باحثون تابعون لمركز علوم الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة، برئاسة الدكتور هشام سلام، الحاصل على درجته العلمية فى مجال الحفريات الفقارية من جامعة أكسفورد، بالتعاون مع فريق بحثى نسائى مُكوَّن من الدكتورة إيمان الداودى، أول باحثة مصرية وعربية فى مجال الديناصورات، والدكتورة سناء السيد، والدكتورة سارة صابر، من جامعتى المنصورة وأسيوط.
ينتمى الديناصور المكتشف حديثاً إلى عائلة تُسمَّى «تيتانورسوريا»، وهى نوع من الديناصورات النباتية طويلة العنق، التى كانت شائعة فى جميع أنحاء العالم خلال العصر الطباشيرى، تلك العائلة معروفة بكونها أكبر الحيوانات البرية التى عرفها العِلْم حتى الآن، إلا أن الديناصور المكتشف حديثاً يختلف عنها فى العديد من الخصائص؛ إذ إن وزنه يعادل تقريباً وزن فيلٍ أفريقى، وهيكله يختلف عن هيكل الديناصورات الاعتيادية التى تنتمى لتلك العائلة.
بدأت قصة الكشف عن الديناصورات فى مصر قبل نحو 100 عام من الآن، بعد أن تمكن العالم الألمانى «أرنست سترومر» عام 1912 من استخراج عظام ديناصور آكل لحوم من نوع «سبينوصور إيجيبتيكاس» فى الصحراء الغربية، بعدها توالت اكتشافات الأجانب للديناصورات فى الصحارى المصرية، حتى وصل عدد المكتشف منها إلى 5 هياكل. وبحسب الدكتور هشام سلام، الباحث الرئيس فى الدراسة، فإن 4 هياكل من الخمسة المكتشفة فى مصر نُقِلتْ إلى ألمانيا ودُمِّرتْ بالكامل خلال الحرب العالمية الثانية.
وبحسب الدكتورة سناء السيد، الباحثة فى الدراسة، ونائب مدير مركز دراسة الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة، عُثر على 4 من الديناصورات السابقة فى الواحات البحرية، وشحنها الباحث الألمانى لمتحف ميونخ الألمانى، ودُمِّرتْ بالكامل أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت من أنواع: «سبينوصور»، وهو ديناصور لاحم كبير الحجم يصل طوله إلى 18 متراً فيما يصل وزنه إلى نحو 5 أطنان، و«باراليتيتان»، وهو ديناصور عُشبى يصل وزنه إلى نحو 80 طناً، و«دلتادروميوس»، وهو ديناصور آكل للحوم صغير الحجم، و«كركرودونتوصور»، وهو ديناصور عملاق آكل للحوم.
«أما الديناصور الخامس فقد اكتشفه فريق أمريكى من جامعة بنسلفانيا عام 2001، وقاموا أيضاً بشحنه للخارج، وبعد أن استنفدوا كل الأغراض العلمية أعادوه إلينا وهو محفوظ فى المتحف الجيولوجى»، تقول سناء السيد، مشيرة إلى أن الميزة النسبية التى يتيحها الاكتشاف الجديد للعلماء المصريين هى وجود ذلك الديناصور داخل البلاد، ما سيساعد على عمل كل الدراسات الممكنة عليه.
«كان من حق مكتشف الحفريات أخذها للخارج لعرضها فى المتاحف الأوروبية»، ويشير الدكتور هشام سلام إلى أن سجل مصر من الحفريات المكتشفة للديناصورات شبه خالٍ «سوف نحتفظ بالحفريات فى مصر.. وهنا تكمن الأهمية الأولى لاكتشافنا: سوف نحتفظ بالحفريات فى مصر»، ويؤكد د. هشام أن فريقه العلمى هو الأول من نوعه فى مصر والعالم العربى الذى يقوم باكتشاف ضخم فى مجال الديناصورات؛ فـ«بهذا الكشف نكون قد أنهينا احتكار الأجانب البحث عن الديناصورات المصرية واستحواذهم على مجال الحفريات الفقارية».
فى عام 2008 بدأ الفريق العلمى فى وضع خطة للبحث عن الديناصورات فى الطبقات الرسوبية المصرية جنوب الصحراء الغربية، بعدها بخمسة أعوام تمكَّن الفريق من اكتشاف «منصوراصورس» فى الواحات الداخلة؛ فعلى بُعْد نحو 700 كيلومتر إلى الجنوب الغربى من القاهرة وجد الفريق عظاماً لذلك الديناصور. وبحسب الدكتورة إيمان الداودى استطلع الفريق البحثى المكاشف الخاصة بالحقبة المتوسطة، وهى طبقات رسوبية كشفت عنها عوامل التجوية والتعرية. «تتكوَّن الأرض من مجموعة من الطبقات؛ الطبقة الأقدم تحت الطبقة الأحدث، تكشف لنا عوامل التجوية والتعرية تلك الطبقات، يُحدِّد الجيولوجيون عمرها، ونقوم نحن بالتنقيب فيها»، وتشير الداودى إلى أن الفريق استعان بكتاب «جيولوجيا مصر» للعالم الكبير الراحل الدكتور رشدى السعيد كنقطة انطلاق للبحث عن الطبقات الرسوبية التى تنتمى للعصر الطباشيرى المتأخر.
بعد أن حدد الفريق العلمى الطبقة محل البحث، وهى طبقة تنتمى للعصر الطباشيرى المتأخر فى فترة زمنية ما بين 70 إلى 80 مليون سنة، قاموا بتقسيم المناطق، وبدأ العمل، حتى تمكنوا من العثور على أول عظمة فى طريق الواحات الداخلة فى ديسمبر 2013، عاد الفريق إلى جامعة المنصورة، وجمع المعدات اللازمة، وفى فبراير 2014 رجع الفريق للموقع، ونصبوا الخيام، وخلال 21 يوماً قضاها الفريق البحثى فى الصحراء استخرجوا مجموعة من العظام لنفس الديناصور.
شملت قائمة القطع التى استخرجها الفريق: عظمتين من العضد، وأصبعاً واحداً من اليد، و3 أصابع من القدم، وجزءاً من الجمجمة، وجزءاً من الفك السفلى، وفقرات من الرقبة، وفقرات أخرى من الظهر والذيل، وعظام الكعبرة وبضعة أضلع. قام الفريق بجمع العظام فى 19 «جاكيت»، وهى مجموعة من المحافظ المُصنَّعة من الجبس، التى تهدف لحفظ العظام ونقلها بأمان. بعد تصوير الموقع والعظام عاد الفريق إلى الجامعة، واستعان بفريق علمى أجنبى لعمل المناقشات العلمية حول طبيعة الكشف ونوعه لتأتى المفاجأة؛ فالعظام التى عثر عليها الفريق تنتمى لنوع جديد تماماً من الديناصورات، حيث إن هذا الديناصور لا شبيه له؛ فبعد أن أجرى العلماء مجموعة من المقارنات بين الديناصورات التى تم اكتشافها حول العالم فى الفترة نفسها لاحظوا مجموعة من الاختلافات؛ فـ«منصوراصورس» يتميِّز بذقن طويل تم الاستدلال عليه بطول عظمة الفك، كما أن عدد أسنانه قليل جداً مقارنة بالنوع الذى ينتمى إليه؛ فداخل الفك لا يوجد سوى 10 أسنان فقط. لا تقتصر الاختلافات التى لاحظها الفريق العلمى على عدد الأسنان وعظمة الفك فحسب، بل امتدت لتشمل عظمة «الريديس» التى تحظى بنهاية عظمية أكبر من المعتاد، كما أن بها التواءً بزاوية 20 درجة، وهى زاوية مميزة لا توجد فى الأنواع الأخرى.
من هنا عرف الفريق أن الكشف العلمى سيُحْدِث صدًى مميزاً فى المجتمع العلمى، وبدأ الفريق فى إجراء دراسات موسَّعة حول الديناصور المكتشف حديثاً، والبحث عن اسم له، ليستقر المطاف على تسميته «منصوراصورس» تيمناً بجامعة المنصورة التى قادت الكشف وتحمَّلت الجزء الأكبر من تكلفة تمويل البعثة.
وبحسب إيمان الداودى فإن الفريق العلمى المصرى اكتشف الديناصور واستخرجه من بين الرمال وصوَّره ونظَّف عظامه، فيما اقتصر دور الفريق العلمى الأجنبى على المراجعات العلمية وتحليل النتائج وكتابتها، والمناقشات حول نوع وجنس الديناصور. «قمنا بالاستفادة من الخبرات الواسعة للفريق الأمريكى الخبير فى مجال الديناصورات»، على حد قول «الداودى» التى تؤكد أن مرحلة المناقشات العلمية لا تقل أهمية بمكان عن مراحل الاكتشاف والاستخراج. بالبحث والتقصِّى، وجد الفريق المصرى - الأمريكى المشترك رابطاً بين «منصوراصورس» وأحد الديناصورات الأوروبية، وهنا كانت المفاجأة الثانية؛ فوجود رابط بين الديناصورين يعنى وجود علاقة ما، واحتمالية وجود «جسر» بين القارتين الأفريقية والأوروبية، ربط بينهما فى تلك العصور السحيقة.
قبل ملايين السنوات كانت أوروبا وآسيا فى كتلة واحدة، تُسمى «أوراسيا»، فى الوقت الذى كانت فيه قارتا أفريقيا وأمريكا فى قارة واحدة يفصل بينها بحر يُسمى «تيسس - Tethyes»، وهو الأب الشرعى للبحر المعروف حالياً باسم «البحر الأبيض المتوسط»، وبحسب العلماء لم يكن هناك رابطٌ أرضىٌّ بين الكتلة الشمالية التى تضم آسيا وأوروبا والكتلة الجنوبية التى تُعد أفريقيا جزءاً منها، غير أن الديناصور الذى اكتشفه الفريق المصرى قد يكشف وجود «جسر أرضى» بين أوروبا وأفريقيا، عبر من خلاله ذلك النوع من الديناصورات لينقسم مسارهما التطورى مُشكِّلاً نوعين شديدى الشبه ببعضهما: الأول فى أوروبا، والثانى فى أفريقيا.
وبحسب الدكتورة إيمان الداودى فإن الاكتشاف الجديد يؤكِّد وجود اتصال بين أوروبا وأفريقيا قبل نحو 70 مليون سنة، مشيرة إلى أن نقطة الاتصال مجهولة إلى الآن، لكن قد يتم الكشف عنها فى المستقبل القريب: «ربما تكون تلك النقطة عبارة عن نتوءات متصلة فى منطقة البحر المتوسط، الذى كانت شواطئه تصل فى تلك الآونة إلى حدود الواحات الداخلة والخارجة».
«الجميل فى الأمر وجود مشاركة نسائية متميزة فى الاكتشاف»، يقول الدكتور هشام سلام، الباحث الرئيس فى الدراسة، والذى يشير إلى أن دور الإناث فى ذلك الاكتشاف كان كبيراً بحق، «فخور بوجودهن فى الفريق، وهو الفريق الأول من نوعه فى أفريقيا والعالم العربى المتخصص على وجه التحديد فى مجال الحفريات الفقارية على وجه التحديد».
لم يتم الاكتشاف دون متاعب؛ فقد واجه الفريق عدداً من الصعوبات من ضمنها التمويل؛ فالرحلات الاستكشافية تحتاج للكثير من الأموال، كما أن هناك عائقاً كبيراً يتمثل فى جهل المجتمعات والسكان بعملية جمع الحفريات. تقول إيمان الداودى إن سكان المنطقة فى إحدى الرحلات الاستكشافية السابقة كانوا يظنون أن الفريق البحثى يُنقِّب عن الآثار، وبالتالى دمَّروا مجموعة فريدة من العينات بعد رحيل الفريق، «بعد أن دُمِّرتْ تلك العينات قررنا نصب المخيمات بالقرب من أماكن الحفريات فى أى عمل مقبل، حتى نصونها ونحافظ عليها لحين جمعها».
وترى «إيمان» أن حل تلك المشكلة يكمن فى نشر الوعى تجاه الحفريات الفقارية، وهو أمر تتمنَّى أن يكون أثراً جانبياً ثانوياً لكشفهم الكبير.
لم تكن تلك هى المشكلة الوحيدة بطبيعة الحال، حسب الدكتورة «سناء السيد»، التى تبلغ من العمر 26 عاماً، ونشرت 4 أبحاث فى دوريات علمية شهيرة؛ فقد واجه الفريق النسائى مشكلة خاصة تتمثل فى محاولة إقناع الأهل بالسفر لمدة تقترب من الشهر والتخييم فى الصحراء الجرداء، «كانت هناك مجموعة من الاعتراضات من جانب الأهل، خصوصاً فيما يتعلق بأمان الرحلة، لكننا تمكنَّا من إقناعهم»، تقول سناء التى تؤكد أن العثور على الديناصور كان بمثابة «حلم»، مشيرة إلى أن الفريق الأنثوى «لم يكن ليتخلَّى عن حلمه مهما كانت الاعتراضات».
وبحسب الدكتور مات لامنا، المتخصص فى الحفريات الفقارية من متحف كارنيجى للعلوم الطبيعية، فإن الكشف الجديد بمثابة «الكأس المقدسة»؛ فذلك الديناصور ينتمى لفترة «حديثة نسبياً»، ولم يتم الكشف عن شبيه له فى أفريقيا كلها، كما أن عظامه محفوظة بشكل جيد ما سيتيح دراسته بطريقة مفصلة. ويشير الدكتور إيريك غورسكاك، عالم الحفريات، فى بيان صحفى إلى أن الاكتشاف الجديد «حاسم للعلم فى مجال الحفريات الأفريقية عموماً والمصرية خصوصاً»، مؤكداً أن أفريقيا لاتزال علامة استفهام عملاقة بالنسبة لتطور الديناصورات.
«ماذا بعد الاكتشاف؟»، يجيب الدكتور هشام سلام، الباحث الرئيس فى الدراسة، بأنه يتمنَّى مواصلة استكشاف الصحراء للكشف عن الديناصورات، والحصول على الدعم المناسب؛ أدبياً ومادياً من الجهات المعنية، كما يتمنَّى الكشف عن ديناصور من نوع «سبينوصور» المصرى، الذى عاش قبل نحو 90 مليون سنة فى الصحراء الغربية وشمال أفريقيا.
يطمح «هشام» لأن يكون فريقه نواة لفرق مصرية معنية بدراسة الحفريات الفقارية: «فى الخارج.. هناك نوع من السياحة قائم على تلك الحفريات».
إن الاكتشافات من ذلك النوع تُمهِّد الطريق أمام معرفة ماضينا السحيق - على حد قول هشام سلام، الذى يعتقد أن الماضى جزءٌ وثيق الصلة باللحظة الراهنة، وأن معرفته قد تعنى التنبؤ بالمستقبل؛ فحين نعرف على سبيل المثال كيف اختفت الديناصورات سنحاول تلافى العوامل التى أدت إلى اندثارها، وبالتالى نُحقِّق الأمان للبشرية فى المستقبل؛ فمعرفة الماضى خير وسيلة للدفاع عن المستقبل.
الزمان: قبل نحو 100 مليون عام من الآن، كانت المنطقة المعروفة باسم الصحراء الغربية إحدى أكثر المناطق وافرة الخضرة حول العالم، فى ذلك العصر، المعروف جيولوجياً باسم «العصر الطباشيرى»، انتشرت المستنقعات المكونة من المياه العذبة فى طول صحراء مصر وعرضها، كانت الأشجار وارفة الخضرة، لتَهِبَ الحياة لمجموعات واسعة من الكائنات الحية من ضمنها الديناصورات.
إبَّان ذلك الوقت كانت الديناصورات ترعى فى الوديان التى تتخلل المستنقعات، منها العاشب الذى يتغذَّى على النباتات، ومنها آكل اللحوم الذى يفترس الكائنات، امتد وجوده لنحو 165 مليون عام، ثم انقرض إلى غير رجعة بسبب ظروف مجهولة، وظل حلم الكشف عن سبب الانقراض مسيطراً على خيال العلماء. ولتحقيق معادلة الوصول للحقيقة يكشف لنا العلماء بين ليلة وأخرى عن هياكل الديناصورات فى محاولة لدراسة ظروف معيشتها، وبالتالى استنتاج لغز انقراضها.
والآن، تمكَّن فريق مصرى - أمريكى مشترك من وضع قطعة جديدة فى أُحْجِية الكشف عن سِرِّ الانقراض الكبير الذى أصاب الديناصورات فى نهاية العصر الطباشيرى قبل نحو 65 مليون سنة، بعد أن استطاعوا الكشف عن ديناصور جديد، أطلقوا عليه «منصوراصورس» تيمناً بالجامعة التى ينتمى إليها الباحث الرئيس: جامعة المنصورة.
وبحسب دراسة نُشرت أمس (الاثنين) فى مجلة نيتشر العلمية ذائعة الصيت، التى تُعدُّ واحدة من أهم المجلات العلمية على مستوى العالم، تمكَّن الفريق من الكشف عن نوع جديد تماماً من الديناصورات فى نصر علمى فريد سيضيف الكثير إلى سجل مصر الأحفورى.
حين يتعلق الأمر بالسنوات الأخيرة من حياة الديناصورات فإن القارة الأفريقية تُعدُّ صفحة فارغة؛ فالحفريات التى عُثِرَ عليها فى أفريقيا تنتمى للفترة الزمنية بين 90 و100 مليون سنة فقط، وهى حفريات قليلة العدد، وتبعد عن زمن الانقراض بفترة كبيرة تتجاوز 25 مليون سنة، وهذا يعنى أن مسار تطور الديناصورات فى أفريقيا ظلَّ إلى حد كبير لغزاً. ولكن الآن، سيساعد اكتشاف الفريق البحثى - من جامعة المنصورة، بالتعاون مع جامعة أوهايو ومؤسسة ليكى للعلوم والجمعية الوطنية الجغرافية والمؤسسة الأمريكية للعلوم - للديناصور الجديد الآن على سَدِّ ثغرة من الثغرات ما قد يُسْهِم فى حل أُحْجِية اندثار الديناصورات.
عُثِرَ على الديناصور الجديد فى الواحات الداخلة أثناء رحلة استكشافية قام بها باحثون تابعون لمركز علوم الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة، برئاسة الدكتور هشام سلام، الحاصل على درجته العلمية فى مجال الحفريات الفقارية من جامعة أكسفورد، بالتعاون مع فريق بحثى نسائى مُكوَّن من الدكتورة إيمان الداودى، أول باحثة مصرية وعربية فى مجال الديناصورات، والدكتورة سناء السيد، والدكتورة سارة صابر، من جامعتى المنصورة وأسيوط.
ينتمى الديناصور المكتشف حديثاً إلى عائلة تُسمَّى «تيتانورسوريا»، وهى نوع من الديناصورات النباتية طويلة العنق، التى كانت شائعة فى جميع أنحاء العالم خلال العصر الطباشيرى، تلك العائلة معروفة بكونها أكبر الحيوانات البرية التى عرفها العِلْم حتى الآن، إلا أن الديناصور المكتشف حديثاً يختلف عنها فى العديد من الخصائص؛ إذ إن وزنه يعادل تقريباً وزن فيلٍ أفريقى، وهيكله يختلف عن هيكل الديناصورات الاعتيادية التى تنتمى لتلك العائلة.
بدأت قصة الكشف عن الديناصورات فى مصر قبل نحو 100 عام من الآن، بعد أن تمكن العالم الألمانى «أرنست سترومر» عام 1912 من استخراج عظام ديناصور آكل لحوم من نوع «سبينوصور إيجيبتيكاس» فى الصحراء الغربية، بعدها توالت اكتشافات الأجانب للديناصورات فى الصحارى المصرية، حتى وصل عدد المكتشف منها إلى 5 هياكل. وبحسب الدكتور هشام سلام، الباحث الرئيس فى الدراسة، فإن 4 هياكل من الخمسة المكتشفة فى مصر نُقِلتْ إلى ألمانيا ودُمِّرتْ بالكامل خلال الحرب العالمية الثانية.
وبحسب الدكتورة سناء السيد، الباحثة فى الدراسة، ونائب مدير مركز دراسة الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة، عُثر على 4 من الديناصورات السابقة فى الواحات البحرية، وشحنها الباحث الألمانى لمتحف ميونخ الألمانى، ودُمِّرتْ بالكامل أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت من أنواع: «سبينوصور»، وهو ديناصور لاحم كبير الحجم يصل طوله إلى 18 متراً فيما يصل وزنه إلى نحو 5 أطنان، و«باراليتيتان»، وهو ديناصور عُشبى يصل وزنه إلى نحو 80 طناً، و«دلتادروميوس»، وهو ديناصور آكل للحوم صغير الحجم، و«كركرودونتوصور»، وهو ديناصور عملاق آكل للحوم.
«أما الديناصور الخامس فقد اكتشفه فريق أمريكى من جامعة بنسلفانيا عام 2001، وقاموا أيضاً بشحنه للخارج، وبعد أن استنفدوا كل الأغراض العلمية أعادوه إلينا وهو محفوظ فى المتحف الجيولوجى»، تقول سناء السيد، مشيرة إلى أن الميزة النسبية التى يتيحها الاكتشاف الجديد للعلماء المصريين هى وجود ذلك الديناصور داخل البلاد، ما سيساعد على عمل كل الدراسات الممكنة عليه.
«كان من حق مكتشف الحفريات أخذها للخارج لعرضها فى المتاحف الأوروبية»، ويشير الدكتور هشام سلام إلى أن سجل مصر من الحفريات المكتشفة للديناصورات شبه خالٍ «سوف نحتفظ بالحفريات فى مصر.. وهنا تكمن الأهمية الأولى لاكتشافنا: سوف نحتفظ بالحفريات فى مصر»، ويؤكد د. هشام أن فريقه العلمى هو الأول من نوعه فى مصر والعالم العربى الذى يقوم باكتشاف ضخم فى مجال الديناصورات؛ فـ«بهذا الكشف نكون قد أنهينا احتكار الأجانب البحث عن الديناصورات المصرية واستحواذهم على مجال الحفريات الفقارية».
فى عام 2008 بدأ الفريق العلمى فى وضع خطة للبحث عن الديناصورات فى الطبقات الرسوبية المصرية جنوب الصحراء الغربية، بعدها بخمسة أعوام تمكَّن الفريق من اكتشاف «منصوراصورس» فى الواحات الداخلة؛ فعلى بُعْد نحو 700 كيلومتر إلى الجنوب الغربى من القاهرة وجد الفريق عظاماً لذلك الديناصور. وبحسب الدكتورة إيمان الداودى استطلع الفريق البحثى المكاشف الخاصة بالحقبة المتوسطة، وهى طبقات رسوبية كشفت عنها عوامل التجوية والتعرية. «تتكوَّن الأرض من مجموعة من الطبقات؛ الطبقة الأقدم تحت الطبقة الأحدث، تكشف لنا عوامل التجوية والتعرية تلك الطبقات، يُحدِّد الجيولوجيون عمرها، ونقوم نحن بالتنقيب فيها»، وتشير الداودى إلى أن الفريق استعان بكتاب «جيولوجيا مصر» للعالم الكبير الراحل الدكتور رشدى السعيد كنقطة انطلاق للبحث عن الطبقات الرسوبية التى تنتمى للعصر الطباشيرى المتأخر.
بعد أن حدد الفريق العلمى الطبقة محل البحث، وهى طبقة تنتمى للعصر الطباشيرى المتأخر فى فترة زمنية ما بين 70 إلى 80 مليون سنة، قاموا بتقسيم المناطق، وبدأ العمل، حتى تمكنوا من العثور على أول عظمة فى طريق الواحات الداخلة فى ديسمبر 2013، عاد الفريق إلى جامعة المنصورة، وجمع المعدات اللازمة، وفى فبراير 2014 رجع الفريق للموقع، ونصبوا الخيام، وخلال 21 يوماً قضاها الفريق البحثى فى الصحراء استخرجوا مجموعة من العظام لنفس الديناصور.
شملت قائمة القطع التى استخرجها الفريق: عظمتين من العضد، وأصبعاً واحداً من اليد، و3 أصابع من القدم، وجزءاً من الجمجمة، وجزءاً من الفك السفلى، وفقرات من الرقبة، وفقرات أخرى من الظهر والذيل، وعظام الكعبرة وبضعة أضلع. قام الفريق بجمع العظام فى 19 «جاكيت»، وهى مجموعة من المحافظ المُصنَّعة من الجبس، التى تهدف لحفظ العظام ونقلها بأمان. بعد تصوير الموقع والعظام عاد الفريق إلى الجامعة، واستعان بفريق علمى أجنبى لعمل المناقشات العلمية حول طبيعة الكشف ونوعه لتأتى المفاجأة؛ فالعظام التى عثر عليها الفريق تنتمى لنوع جديد تماماً من الديناصورات، حيث إن هذا الديناصور لا شبيه له؛ فبعد أن أجرى العلماء مجموعة من المقارنات بين الديناصورات التى تم اكتشافها حول العالم فى الفترة نفسها لاحظوا مجموعة من الاختلافات؛ فـ«منصوراصورس» يتميِّز بذقن طويل تم الاستدلال عليه بطول عظمة الفك، كما أن عدد أسنانه قليل جداً مقارنة بالنوع الذى ينتمى إليه؛ فداخل الفك لا يوجد سوى 10 أسنان فقط. لا تقتصر الاختلافات التى لاحظها الفريق العلمى على عدد الأسنان وعظمة الفك فحسب، بل امتدت لتشمل عظمة «الريديس» التى تحظى بنهاية عظمية أكبر من المعتاد، كما أن بها التواءً بزاوية 20 درجة، وهى زاوية مميزة لا توجد فى الأنواع الأخرى.
من هنا عرف الفريق أن الكشف العلمى سيُحْدِث صدًى مميزاً فى المجتمع العلمى، وبدأ الفريق فى إجراء دراسات موسَّعة حول الديناصور المكتشف حديثاً، والبحث عن اسم له، ليستقر المطاف على تسميته «منصوراصورس» تيمناً بجامعة المنصورة التى قادت الكشف وتحمَّلت الجزء الأكبر من تكلفة تمويل البعثة.
وبحسب إيمان الداودى فإن الفريق العلمى المصرى اكتشف الديناصور واستخرجه من بين الرمال وصوَّره ونظَّف عظامه، فيما اقتصر دور الفريق العلمى الأجنبى على المراجعات العلمية وتحليل النتائج وكتابتها، والمناقشات حول نوع وجنس الديناصور. «قمنا بالاستفادة من الخبرات الواسعة للفريق الأمريكى الخبير فى مجال الديناصورات»، على حد قول «الداودى» التى تؤكد أن مرحلة المناقشات العلمية لا تقل أهمية بمكان عن مراحل الاكتشاف والاستخراج. بالبحث والتقصِّى، وجد الفريق المصرى - الأمريكى المشترك رابطاً بين «منصوراصورس» وأحد الديناصورات الأوروبية، وهنا كانت المفاجأة الثانية؛ فوجود رابط بين الديناصورين يعنى وجود علاقة ما، واحتمالية وجود «جسر» بين القارتين الأفريقية والأوروبية، ربط بينهما فى تلك العصور السحيقة.
قبل ملايين السنوات كانت أوروبا وآسيا فى كتلة واحدة، تُسمى «أوراسيا»، فى الوقت الذى كانت فيه قارتا أفريقيا وأمريكا فى قارة واحدة يفصل بينها بحر يُسمى «تيسس - Tethyes»، وهو الأب الشرعى للبحر المعروف حالياً باسم «البحر الأبيض المتوسط»، وبحسب العلماء لم يكن هناك رابطٌ أرضىٌّ بين الكتلة الشمالية التى تضم آسيا وأوروبا والكتلة الجنوبية التى تُعد أفريقيا جزءاً منها، غير أن الديناصور الذى اكتشفه الفريق المصرى قد يكشف وجود «جسر أرضى» بين أوروبا وأفريقيا، عبر من خلاله ذلك النوع من الديناصورات لينقسم مسارهما التطورى مُشكِّلاً نوعين شديدى الشبه ببعضهما: الأول فى أوروبا، والثانى فى أفريقيا.
وبحسب الدكتورة إيمان الداودى فإن الاكتشاف الجديد يؤكِّد وجود اتصال بين أوروبا وأفريقيا قبل نحو 70 مليون سنة، مشيرة إلى أن نقطة الاتصال مجهولة إلى الآن، لكن قد يتم الكشف عنها فى المستقبل القريب: «ربما تكون تلك النقطة عبارة عن نتوءات متصلة فى منطقة البحر المتوسط، الذى كانت شواطئه تصل فى تلك الآونة إلى حدود الواحات الداخلة والخارجة».
«الجميل فى الأمر وجود مشاركة نسائية متميزة فى الاكتشاف»، يقول الدكتور هشام سلام، الباحث الرئيس فى الدراسة، والذى يشير إلى أن دور الإناث فى ذلك الاكتشاف كان كبيراً بحق، «فخور بوجودهن فى الفريق، وهو الفريق الأول من نوعه فى أفريقيا والعالم العربى المتخصص على وجه التحديد فى مجال الحفريات الفقارية على وجه التحديد».
لم يتم الاكتشاف دون متاعب؛ فقد واجه الفريق عدداً من الصعوبات من ضمنها التمويل؛ فالرحلات الاستكشافية تحتاج للكثير من الأموال، كما أن هناك عائقاً كبيراً يتمثل فى جهل المجتمعات والسكان بعملية جمع الحفريات. تقول إيمان الداودى إن سكان المنطقة فى إحدى الرحلات الاستكشافية السابقة كانوا يظنون أن الفريق البحثى يُنقِّب عن الآثار، وبالتالى دمَّروا مجموعة فريدة من العينات بعد رحيل الفريق، «بعد أن دُمِّرتْ تلك العينات قررنا نصب المخيمات بالقرب من أماكن الحفريات فى أى عمل مقبل، حتى نصونها ونحافظ عليها لحين جمعها».
وترى «إيمان» أن حل تلك المشكلة يكمن فى نشر الوعى تجاه الحفريات الفقارية، وهو أمر تتمنَّى أن يكون أثراً جانبياً ثانوياً لكشفهم الكبير.
لم تكن تلك هى المشكلة الوحيدة بطبيعة الحال، حسب الدكتورة «سناء السيد»، التى تبلغ من العمر 26 عاماً، ونشرت 4 أبحاث فى دوريات علمية شهيرة؛ فقد واجه الفريق النسائى مشكلة خاصة تتمثل فى محاولة إقناع الأهل بالسفر لمدة تقترب من الشهر والتخييم فى الصحراء الجرداء، «كانت هناك مجموعة من الاعتراضات من جانب الأهل، خصوصاً فيما يتعلق بأمان الرحلة، لكننا تمكنَّا من إقناعهم»، تقول سناء التى تؤكد أن العثور على الديناصور كان بمثابة «حلم»، مشيرة إلى أن الفريق الأنثوى «لم يكن ليتخلَّى عن حلمه مهما كانت الاعتراضات».
وبحسب الدكتور مات لامنا، المتخصص فى الحفريات الفقارية من متحف كارنيجى للعلوم الطبيعية، فإن الكشف الجديد بمثابة «الكأس المقدسة»؛ فذلك الديناصور ينتمى لفترة «حديثة نسبياً»، ولم يتم الكشف عن شبيه له فى أفريقيا كلها، كما أن عظامه محفوظة بشكل جيد ما سيتيح دراسته بطريقة مفصلة. ويشير الدكتور إيريك غورسكاك، عالم الحفريات، فى بيان صحفى إلى أن الاكتشاف الجديد «حاسم للعلم فى مجال الحفريات الأفريقية عموماً والمصرية خصوصاً»، مؤكداً أن أفريقيا لاتزال علامة استفهام عملاقة بالنسبة لتطور الديناصورات.
«ماذا بعد الاكتشاف؟»، يجيب الدكتور هشام سلام، الباحث الرئيس فى الدراسة، بأنه يتمنَّى مواصلة استكشاف الصحراء للكشف عن الديناصورات، والحصول على الدعم المناسب؛ أدبياً ومادياً من الجهات المعنية، كما يتمنَّى الكشف عن ديناصور من نوع «سبينوصور» المصرى، الذى عاش قبل نحو 90 مليون سنة فى الصحراء الغربية وشمال أفريقيا.
يطمح «هشام» لأن يكون فريقه نواة لفرق مصرية معنية بدراسة الحفريات الفقارية: «فى الخارج.. هناك نوع من السياحة قائم على تلك الحفريات».
إن الاكتشافات من ذلك النوع تُمهِّد الطريق أمام معرفة ماضينا السحيق - على حد قول هشام سلام، الذى يعتقد أن الماضى جزءٌ وثيق الصلة باللحظة الراهنة، وأن معرفته قد تعنى التنبؤ بالمستقبل؛ فحين نعرف على سبيل المثال كيف اختفت الديناصورات سنحاول تلافى العوامل التى أدت إلى اندثارها، وبالتالى نُحقِّق الأمان للبشرية فى المستقبل؛ فمعرفة الماضى خير وسيلة للدفاع عن المستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق